9. يجعل حرية الدين والوجدان ركيزةً

لقد بين الحقُّ تعالى للإنسان الذي خلقه حراً ووضع فيه الشعور الصواب والخطأ، ومنحه حرية الإرادة وملَّكه إياها فكل أحد يرجح ما يرجحه بحرية إرادته وسيتحمّل بنفسه عواقب ما رجّحه يقول الله تعالى في القرآن الكريم:

{وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآَمَنَ مَنْ فِيْ الْاَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيْعَاً اَفَاَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُوْنُوا مُؤْمِنِيْنَ} (يونس، 99)

{فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} (الكهف، 29)

{اِنْ تَكْفُرُوا فَاِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنْكُم وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَاِنْ تَشْكُرُوْا يَرْضَهُ لَكُم} (الزُّمر، 7)

عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: كَانَتِ الْمَرْأَةُ تَكُونُ مِقْلَاتًا (لَا يَعِيشُ لَهَا وَلَدٌ) فَتَجْعَلُ عَلَى نَفْسِهَا إِنْ عَاشَ لَهَا وَلَدٌ أَنْ تُهَوِّدَهُ، فَلَمَّا أُجْلِيَتْ بَنُو النَّضِيرِ (لنقْضهم العهد مع المسلمين) كَانَ فِيهِمْ مِنْ أَبْنَاءِ الْأَنْصَارِ فَقَالُوا: “لَا نَدَعُ أَبْنَاءَنَا” (وأرادوا أن يكرهوهم على الإسلام) فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَيِّ} (البقرة، 256) (أبو داود، الجهاد، 116 /2682؛ الواحدي، أسباب نزول القرآن، ص. 85، 87)

إن الإسلام لا يريد أن يُلزِمَ الناس بمبادئه ولذا هو يتحاشى كل أساليب الإجبار والقهر حتى الإلزام الفكري، فمثلاً: لم تكن المعجزة من الوسائل الأساسية في نشر الإسلام، ولم يكن طلب وقوع الحوادث الخارقة للعادة مرحَّباً به من النبي صلى الله عليه وسلم، وبما أن الإسلام تزامن مع تطور الجنس البشري لذا خاطب العقل والذهن بمعجزة القرآن الكريم وربط الإنسانَ به من خلال إظهار القوانين العقلية والأدلة المقنعة، وبالتالي هو لم يستخدم الإكراه المادي كوسيلة من الوسائل مطلقاً. ثم إن استخدام الإكراه في الدين يسوق الناس عموماً إلى النفاق الذي يعد أخطر من الكفر الظاهر، والعبادة المؤداة بلا إخلاص والمشرَبةُ بالرياء والعجب مردودة على صاحبها.

عن الحسن بن علي بن أبي رافع أن أبا رافع أخبره قال:

“بعثتني قريش إلى رسول الله فلما رأيت رسول الله ألقي في قلبي الإسلام، فقلت: «يا رسول الله إني والله لا أرجع إليهم أبداً» فقال رسول الله: «إني لا أخيس بالعهدِ ولا أحبس البُرُدَ، ولكن ارجع فإن كان في نفسك الذي في نفسك الآن فارجع» قال: فذهبت ثم أتيت النبي فأسلمت” (أبو داود، الجهاد، 151/ 2758)

وفي الموطأ عن ابن شهاب أنه بلغه أَنَّ نِسَاءً كُنَّ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُسْلِمْنَ بِأَرْضِهِنَّ، وَهُنَّ غَيْرُ مُهَاجِرَاتٍ، وَأَزْوَاجُهُنَّ حِينَ أَسْلَمْنَ كُفَّارٌ، مِنْهُنَّ بِنْتُ الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ، وَكَانَتْ تَحْتَ صَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ، فَأَسْلَمَتْ يَوْمَ الْفَتْحِ. وَهَرَبَ زَوْجُهَا صَفْوَانُ بْنُ أُمَيَّةَ مِنَ الْإِسْلَامِ، فَبَعَثَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ابْنَ عَمِّهِ وَهْبَ بْنَ عُمَيْرٍ، بِرِدَاءِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَانًا لِصَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ، وَدَعَاهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْإِسْلَامِ، وَأَنْ يَقْدَمَ عَلَيْهِ، فَإِنْ رَضِيَ أَمْرًا قَبِلَهُ، وَإِلَّا سَيَّرَهُ شَهْرَيْنِ، فَلَمَّا قَدِمَ صَفْوَانُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِرِدَائِهِ، نَادَاهُ عَلَى رُءُوسِ النَّاسِ فَقَالَ:

“يَا مُحَمَّدُ إِنَّ هَذَا وَهْبَ بْنَ عُمَيْرٍ جَاءَنِي بِرِدَائِكَ، وَزَعَمَ أَنَّكَ دَعَوْتَنِي إِلَى الْقُدُومِ عَلَيْكَ، فَإِنْ رَضِيتُ أَمْرًا قَبِلْتُهُ، وَإِلَّا سَيَّرْتَنِي شَهْرَيْنِ” فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

“انْزِلْ أَبَا وَهْبٍ” فَقَالَ:

“لَا وَاللَّهِ. لَا أَنْزِلُ حَتَّى تُبَيِّنَ لِي” فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

“بَلْ لَكَ تَسِيرُ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ”

فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قِبَلَ هَوَازِنَ بِحُنَيْنٍ. فَأَرْسَلَ إِلَى صَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ يَسْتَعِيرُهُ أَدَاةً وَسِلَاحًا عِنْدَهُ. فَقَالَ صَفْوَانُ: “أَطَوْعًا أَمْ كَرْهًا؟” فَقَالَ: “بَلْ طَوْعًا” فَأَعَارَهُ الْأَدَاةَ وَالسِّلَاحَ الَّذِي عِنْدَهُ. ثُمَّ خَرَجَ صَفْوَانُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ كَافِرٌ فَشَهِدَ حُنَيْنًا وَالطَّائِفَ، وَهُوَ كَافِرٌ، وَامْرَأَتُهُ مُسْلِمَةٌ، وَلَمْ يُفَرِّقْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ امْرَأَتِهِ حَتَّى أَسْلَمَ صَفْوَانُ” (الموطأ، النكاح، 44-45)

قال ابنُ إسحاقَ: لما قدم وفدُ نجرانَ على رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ دخلُوا عليه مسجدَهُ بعد صلاةِ العصرِ، فحانتْ صلاتُهم فقامُوا يُصلُّون في مسجدِهِ، فأراد النَّاسُ منعهم، فقالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: “دعُوهم” فاستقبلُوا المشرقَ فصلُّوا صلاتَهم[1]

وفي عهد عمر رضي الله عنه قام أبو عبيدة بن الجراح بمعاهدة أهالي حمص النصارى وسلموه المدينة مقابل الحفاظ على أنفسهم وأموالهم وأسوارهم وكنائسهم ونواعيرهم، واستثنى من المعاهدة شرط تحويل ربع كنيسة يُوحَنَّا إلى مسجد، وعندما استلم معاوية الخلافة أراد ضم هذه الكنيسة إلى المسجد الموجود في دمشق إلا أنه رجع عن رأيه لما اعترض الناس، وكذا عبد الملك بن مروان عجز عن إرضاء غير المسلمين على الرغم من إعطائهم الكثير من الأموال، وأما الوليد بن عبد الملك فمع إعطائه كمية كبيرة من المال وتقديمه بدائل مختلفة لم ترضهم أيضاً قام بهدم الكنيسة وألحقها بالمسجد وعندما رُفع هذا الأمر إلى الخليفة عمر بن عبد العزيز تحقق منه وقرر إعادة المكان إلى أصحابه بعدما عرف أنهم على حق ولكن المسلمين هذه المرة لم يسرّهم تحويل مسجدهم إلى كنيسة فقام عمر بن عبد العزيز بمقابلة غير المسلمين وأنهى المشكلة بتبرعه لهم بجميع كنائس الغوطة التي فتحها المسلمين.[2]

وكتب فيليب مارشال براون، المؤرخ البريطاني: “إن الأتراك على الرغم من تحقيقهم انتصاراً كبيراً فإنهم سمحوا لشعوب جميع الدول في إدارة نفسها بنفسها وفقاً لعاداتها وتقاليدها الخاصة بها بسخاء.”

عندما هاجم نابليون بونابرت عام 1798-1799 الدولة العثمانية، أراد تحريض الأرمن الذين يعيشون في فلسطين وسوريا. فرد عليه سباستيان السفير الفرنسي في اسطنبول: “إن الأرمن سعداء جداً في حياتهم هنا ومن المستحيل إحداث التمرد”[3]



[1] – سيرة ابن هشام، 2، 202-207؛ ابن سعد، الطبقات الكبرى، 1، 357؛ البيهقي، دلائل النبوة، 4، 382-387؛ الحلبي، إنسان العيون في سيرة الأمين المأمون، 3، 235.

[2]ـ انظروا: ب، د، م، حميد الله، مدخل إلى الإسلام، ص: 237.

[3]ـ انظروا: http/ /www.atmg.org/armenianProblem.htlm.

%d bloggers like this: