بعدما توفي النبي صلى الله علي وسلم واكتمل الوحي كان الكثير من الصحابة يحفظون القرآن عن ظهر قلب ويقرأونه في صلواتهم، ولكن نصوص القرآن تلك آنذاك لم تجمع في كتاب يضمها كلها إذ إن الوحي كان يتنزل على النبي صلى الله عليه وسلم حتى آخر لحظة، فقام أبو بكر رضي الله عنه بتشكيل لجنة يترأسها زيد بن ثابت طلب إليهم جمع نصوص القرآن الكريم بين دفتي مصحف يحتويها كلها، وتتمتع هذه اللجنة بالثقة إلى أقصى الحدود، وتتبنى أصولاً متينة في عملها، وعلى سبيل المثال فإن إحدى هذه الأصول كانت على النحو التالي:
أعلم سيدنا بلال رضي الله عنه الجميع بتجوله في أزقة المدينة المنورة أن على كل من كان في يده نسخ مكتوبة من الآيات الكريمة إحضارها إلى المسجد مع الإتيان بشاهدين يشهدا على أنها النسخ الخطية الأولى التي أمر النبي صلى الله عليه وسلم شخصياً بكتابتها. ومن ثم قامت اللجنة بمقارنة النسخ الخطية التي حصلتْ عليها بشهادة شاهدين مع ما يحفظه الناس عن ظهر قلب من القرآن الكريم وولي ذلك كتابة القرآن الكريم من أوله إلى آخره في مصحف واحد. ثم إن هذه اللجنة إن لم تحصل على جميع النسخ المكتوبة في أيدي الناس فإنها كانت تحفظ القرآن عن ظهر قلب.
فهم بهذا العمل قاموا بتصديق ما كان موجوداً وأثبتوا استحالة ورود أية شبهة في القرآن الكريم.
وفي عهد عثمان بن عفان رضي الله عنه شُكلت لجنة على رأسها زيد بن ثابت أيضاً، حيث زيدت نسخ القرآن المكتوب في مصحف.
وفي رأييأ آخر طلب عثمان بن عفان من اللجنة المؤلفة من 12 شخصاً يترأسهم زيد بن ثابت جمع القرآن مرة أخرى، وقورن بالذي جمع على عهد أبي بكر ولم يحصل بينهما أي اختلاف، وما هذا إلا دليل على أن القرآن الكريم محفوظ من الله تعالى وإشارة إلى دقة الطريقة والأساليب المستخدمة في جمع القرآن الكريم.[1]
لقد أرسِلت نسخ المصحف التي أعدتها اللجنة إلى مراكز معينة.[2] كما أُرسِل صحابة علماء يعلمون الناس قراءة القرآن وتلاوته على النحو الصحيح وبمختلف القراءات. وبهذا كان يعلَّم القرآن الكريم لسائر الناس كما قرأه النبي صلى الله عليه وسلم حرفاً حرفاً. وقد أظهروا كامل الاعتناء في هذا الشأن، فمنعوا أن يتعلم أحد بنفسه من شيء مكتوب عليه القرآن بل لا بد من معلم مؤهل يستمع إليه المتعلم إلى جانب قراءة المكتوب من القرآن الكريم. وهكذا فقد نشأ في هذا الشأن فرع من العلوم يطلق عليه علم التجويد يعلم الكيفية التي يتلى فيه القرآن الكريم حرفاً حرفاً، ولا يمكن تعلمه إلا بتطبيقه على معلم ماهر، وطريقة تعلم القرآن هذه من فم متقن استمر العمل بها حتى يومنا هذا بلا انقطاع.
ويخبرنا عبيد الله بن عبد الله قَالَ: “إِنَّ أَوَّلَ مَنْ جَمَعَ الْقُرْآنَ فِي مُصْحَفٍ وَكَتَبَهُ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ، ثُمَّ وَضَعَهُ فِي الْمَسْجِدِ فَأَمَرَ بِهِ يُقْرَأُ كُلَّ غَدَاةٍ” (ابن شبة، تاريخ المدينة، ص: 7)
لقد أمر عثمان بن عفان الناس بكتابة المصاحف بعدما أتمّ جمع المصحف أي جمعه في نسخة واحدة، ما يعني أنه حثهم على تسجيل نسخ خاصة منه.[3] لأن الناس لم يكتبوا القرآن من قبل إلا ما قد يكون كتبوه من بعض السور والآيات، فأصبح بإمكانهم نسخ القرآن كاملاً بعد أن جُمِع جميع آياته وسوره بين دفتي مصحف واحد مع انتهاء نزول الوحي من لجنة موثوقة، وبعد تصديق آلاف الحفاظ من الصحابة رضوان الله عليهم.
وبالنظر إلى هذا فقد أمرت السيدة عائشة رضي الله عنها من مولاها المعتق أبي يونس أن يكتب لها مصحفاً.[4]
وأما مولى عمر المعتق عمرو بن رافع فقد كان يكتب مصحفاً في حياة زوجات النبي صلى الله عليه وسلم، حتى أنه كتب مصحفاً لحفصة رضي الله عنها.[5]
ثم إنه ثمة تدابير أخرى اتخذت لحفظ القرآن من أدقّ الأخطاء، “وكان الحجاج وكّل عاصما الجحدري وناجية بن رمح وعليّ بن أصمع بتتبّع المصاحف، وأمرهم أن يقطعوا كل مصحف وجدوه مخالفا لمصحف عثمان، ويعطوا صاحبه ستين درهما” (ابن قتيبة، تأويل مشكل القرآن، دار الكتب العلمية، بيروت، ص: 37)
إن أمثال هذه اللّجان وجدت على الدوام، فعلى سبيل المثال في تركيا مؤسسة اسمها “لجنة تدقيق المصاحف والآثار الدينية”، تقوم إحدى وظائفها الأساسية على الحيلولة دون ظهور أي خطأ في القرآن الكريم. ولذا فإنه من غير الممكن تغيير حتى حرف واحد من القرآن الكريم الذي يحفظه مئات الآلاف من الحفّاظ في كل عصر، وتوجد منه ملايين النسخ المطبوعة والمكتوبة، وفي حال طرأ عليه خطأ مطبعي فإنه سرعان ما يصحح.[6]
وفي عُرف الإسلام لا بد للشخص ليصبح معلماً للقرآن الكريم من الحصول على إجازة مِن معلم خبير أو ثلّة من المعلمين، حيث يمكن من خلال هذا المنهج التأكّد من تعلّم الطالب القرآن كما يجب إضافةً إلى التأكّد من خلوّ النسخة الموجودة بين يديه من أي خطأ. وهذا المنهج استمر تطبيقه إلى وقتنا الحالي. ثم إنه في آخر المطاف يعطي الشيخ طالبه إجازة تحتوي على أسماء شيوخه وشيوخهم في سلسلة تنتهي بالنبي صلى الله عليه وسلم. ثُمَّ يصدِّقُ الشيخ على أن تلميذه قد أتمّ تعلّم القرآن كله على نحو صحيح عنه كما تعلّمه هو عن شيوخه.[7]
وكما لوحظ فإن حفظ القرآن بأمتن الطرق قد استمر إلى يومنا هذا في شكل كتابته وقراءته وحفظه من فم إلى فم بحضور القراء،[8] وهذا يعني تطبيق الطريقة الثالثة، إضافة إلى القراءة والتحفيظ في حفظ القرآن الكريم، وهي التربع بقصد التعلم بحضور قارئ ماهر مجاز من الأساتذة.
[1] ـ البروفسور. د. م. م. الأعظمي، تاريخ القرآن، ص: 131 ـ 135.
[2] ـ ـ توجد بعض نسخ القرآن هذه أو أجزاء منها وصلت إلى يومنا هذا، على سبيل المثال: نسخ المصاحف الموجودة في طاشكنت، اسطانبول قصر طوب كابي ومتحف اسطانبول للآثار الإسلامية التركي، هي من النسخ التي قام بتكثيرها عثمان بن عفان أو النسخ المستنسخة عنها. (زاهد الكوثري، المقالات، ص: 12 ـ 13؛ صلاح الدين المنجد، دراسات في تاريخ الخط العربي، ص: 50 ـ 55)، وهناك نسخة من المصحف تبلغ 28 صفحة منه تعود إلى عثمان بن عفان رضي الله عنه مكتوبة على الجلد والتي لا تقدر بثمن نم إهداؤها إلى متحف مولانا في قونيا من قبل حفيد السلطان عبد المجيد والوالي القديم لحيدر آباد في الهند بركت شاه.
www.Haber7.com، [27 Kasım 2006، 10:14]) ، وللأمثلة الأخرى في هذا الأمر يمكنكم الاطلاع على: البروفسور. د. م. حميد الله، تاريخ القرآن الكريم، ص: 87، الأعظمي، المرجع السابق، 114، 138، 153 – 157، 179.
[3] ـ ابن شبة، تاريخ المدينة،جدة 1399، ص: 993، 998، 1002.
[4] – مسلم، المساجد، 207؛ أبو داود، الصلاة، 5/410؛ الموطأ، صلاة الجماعة، 25.
[5] – الموطأ، صلاة الجماعة، 26؛ الهيثمي، 6، 320؛ 7، 154.
[6] ـ وأما الميزة الأخرى فهي: وجود رسم خط وكتابة خاصّين بالقرآن الكريم، ويطلق على هذا الخط اسم “الخط العثماني” و “الخط الاصطلاحي”. ويعد هذا الخط حسبما بينه العديد من العلماء رسم خط توقيفي، أي أنه مستند إلى تعاليم وإشارات النبي صلى الله عليه وسلم. فكتابة بعض الكلمات على نحو مخالف لقواعد الكتابة مبني على حكمة، وهي تشير إلى مقاصد لطيفة. (وهنا يجب علينا أن لا ننسى أن قواعد اللغة العربية وضعت بعدما استخرجت من القرآن الكريم)، بل إنه تم تدوين علم تحت اسم “علم رسم القرآن”، وهذا العلم كعلم القراءات مختص بعلوم القرآن لا غير، وبواسطة هذا العلم أضحى من الممكن أن نعرف وجود اختلافات في الكلمات بين الخط الاصطلاحي والخط القياسي وحكمها. موضوعات هذا العلم حروف المصاحف المكتوبة بأمر عثمان، باعتبار الأحوال كالزيادة والحذف والإبدال والفصل والوصل. ثم إن تعليم وتعلم هذا العلم فرض كفاية حيث أن غاية هذا العلم وفائدته عظيمة للغاية.
[7] ـ البروفسور . د. م. حميد الله، تاريخ القرآن الكريم، ص: 87، 53، 56.
[8] ـ يمكن الاطلاع على الآثار التالية لمعرفة مدى متانة الطرق والمناهج المتبعة في هذا الموضوع من قبل علماء الإسلام: البروفسور. د. م. م. الأعظمي،
The History of the Qur’anic Text from Revelation to Compilation: A Comparative Study with the Old and New Testaments، Leicester: UK Islamic Academy، 2003.
البروفسور . د. م. حميد الله، تاريخ القرآن الكريم