يخبر الحق تعالى أنه سخّر كل ما يحيط بنا لخدمة البشر، فعلينا أن نؤدي شكر هذه النعم بحق. ولذا يجب علينا التعامل مع محيطنا على أساس الأمانة والمسؤولية، فاستخدام المحيط بلا حدود، وإسرافه وتخريبه يعَدُّ من الجحود الذي سيعود بالضرر علينا، يقول الله تعالى:
{ظَهَرَ الْفَسَادَ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ اَيْدِي النَّاسَ لَيُذَيْقَهُم بَعْضَ الَّذِيْ عَمِلُوا لَعَلَّهُم يَرْجِعُونَ} (الروم، 41)
في حين أن الله تعالى أمر من قبل بقوله:
{وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ المِيْزَانَ أَلَّا تَطْغَوْا فِيْ المِيْزَانِ} (الرحمن، 7 – 8) ولكن الناس لم يتعظوا بذلك وهم يتحملون عاقبة ذلك الآن.
يتعامل المسلم مع الطبيعة بالسكينة والجمال التي تنعكس من قلبه على سلوكياته في الخارج، فهو حريص على ألَّا يؤذي أي مخلوق.
عَنْ أَبِي قَتَادَةَ رضي الله عنه أَنَّهُ كَانَ يُحَدِّثُ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُرَّ عَلَيْهِ بِجِنَازَةٍ فَقَالَ:
“مُسْتَرِيحٌ وَمُسْتَرَاحٌ مِنْهُ”، قَالُوا: “يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا المُسْتَرِيحُ وَالمُسْتَرَاحُ مِنْهُ؟” قَالَ:
“العَبْدُ المُؤْمِنُ يَسْتَرِيحُ مِنْ نَصَبِ الدُّنْيَا وَأَذَاهَا إِلَى رَحْمَةِ اللَّهِ، وَالعَبْدُ الفَاجِرُ يَسْتَرِيحُ مِنْهُ العِبَادُ وَالبِلاَدُ، وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ” (البخاري، الرقاق، 42؛ مسلم، الجنائز، 61؛ النسائي، الجنائز، 48؛ أحمد، جـ 5، ص: 296، 302، 304)
هذا يعني أن المخلوقات التي نظن أنها لا حياة فيها تمتلك شعوراً وإحساساً، ومِن أدلّة ذلك هذه الرواية عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: “إِنَّ الْجَبَلَ لَيُنَادِي الْجَبَلَ «أَيْ فُلَانُ هَلْ مَرَّ بِكَ أَحَدٌ ذَكَرَ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ؟» فَإِذَا قَالَ: «نَعَمُ» اسْتَبْشَرَ”، ويضيف عونُ بن عبد الله الذي يروي هذا عن ابن مسعود: “فَيَسْمَعْنَ الزُّورَ إِذَا قِيلَ وَلَا يَسْمَعْنَ الْخَيْرَ، هُنَّ لِلْخَيْرِ أَسْمَعُ، وَقَرَأَ:
{وَقَالُوا اِتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدَاً. لَقَدْ جِئْتُمْ شِيْئَاً اِدَّاً. تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْاَرْضُ وَتَخِرُّ الجِبَالُ هَدَّاً. اَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدَاً. وَمَا يَنْبِغِي لِلرَّحْمَنِ اَنْ يَتَّخِذَ وَلَدَاً. اِنْ كَلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالْاَرْضِ اِلَّا آَتِي الرَّحْمَنِ عَبْدَاً} (مريم، 88 – 93) (البيهقي، الشعب، 1، 453؛ الطبراني، المعجم الكبير، 9، 103)
وبناء على ذلك يجب على الإنسان اجتناب الكلام المؤذي والتصرفات المؤذية في كل مكان وكل حال، فتلويث المدينة والمناظر الطبيعية في البلدات والقرى وتلويث ماءها وهواءها، وإلقاء القمامة والأوساخ في كل مكان تصرف وسلوك ينافي كرامة الإنسان وشرفه، ويكون ذلك من الأنانية حيث لا نفكر بأنفسنا ولا بمن حولنا، في حين أن المسلمين يعلمون أن تلويثهم للأماكن يسبب الضرر لغيرهم وتخريب جمال الطبيعة، ثم إن عدم إلقاء أشياء ملوثة كقشر البذور والبندق والفستق وزجاجات الماء وعُلب الأغذية المعلّبة والأوراق وبقايا العبوات في الشوارع والأزقّة والمتنزهات وكذا عدم التصرف بسلوكيات تزعج وتؤذي الغير سواء من الناس أو الحيوان؛ كل ذلك يعدّ من مقتضى الإيمان، وهو شرط لكمال الإيمان، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أن إماطة غصن أو حتى شوك يؤذي الناس عن الطريق من شعب الإيمان.[1]
ويخبرنا الرسول صلى الله عليه وسلم أن الله تعالى لا يحب من يؤذي الناس، يقول معاذ بن أنس رضي الله عنه: “غَزَوْتُ مَعَ نَبِيِّ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَزْوَةَ كَذَا وَكَذَا، فَضَيَّقَ النَّاسُ الْمَنَازِلَ وَقَطَعُوا الطَّرِيقَ، فَبَعَثَ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُنَادِيًا يُنَادِي فِي النَّاسِ:
«أَنَّ مَنْ ضَيَّقَ مَنْزِلًا أَوْ قَطَعَ طَرِيقًا فَلَا جِهَادَ لَهُ»” (أبو داود، الجهاد، 88 / 2629؛ أحمد، 3، 441)
فيوضح الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم هنا أن تضييق الأماكن والطرق من غير ضرورة، وأن إلحاق الأذى والضرر بعباد الله تعالى؛ يعدُّ خطأً كبيراً، فضلاً عن إضاعته للثواب، ومن هذه الناحية فإن إلقاء النفايات عشوائياً والبصق وإيقاف السيارات في مكان غير مناسب، وكلّ ما فيه تضييقٌ على النّاس ووضْع أشياء تصعِّبُ عليهم المشي في الطّرق، كلّ ذلك لا بدّ للمسلم من اجتنابه والابتعاد عنه، يقول الرّسول صلّى الله عليه وسلّم:
“إياكم والتعريسَ على جوادِّ الطريق، والصلاةَ عليها، فإنها مأوى الحيَّات والسباع، وقضاءَ الحاجة عليها، فإنها من الملاعن” (ابن ماجه، الطهارة، 21؛ أحمد، جـ 3، ص: 305، 381)
وقال عليه الصلاة والسلام:
“اتَّقُوا الْمَلَاعِنَ الثَّلَاثَةَ: الْبَرَازَ فِي الْمَوَارِدِ، وَقَارِعَةِ الطَّرِيقِ، وَالظِّلِّ” (أبو داود، الطهارة، 14 / 26؛ ابن ماجه، الطهارة، 21؛ أحمد، 1، 299)
يلاحظ من التعاليم العظيمة هذه للرسول صلى الله عليه وسلم الحفاظ ليس على الإنسان وحسب بل على التكامل الموجود في الطبيعة بنظام دقيق، والحماية للمحيط وللحياة البرية بدقة ورقّة عميقين.
إن المسلمين كما أنهم لا يؤذون الحيوانات فضلاً عن البشر فإنهم علاوة على ذلك يخدمونها لأنها من مخلوقات الله تعالى، لقد أفاد الكاتب الفرنسي المشهور مونتا اِغْنه أن الأتراك المسلمين أسسوا دُوْرَ وقف ومشافٍ للحيوانات، ويتحدث المحامي الفرنسي غُوْوِر الذي زار الدولة العثمانية في القرن (17) عن وجود مستشفىً في دمشق يعتني بمعالجة القطط والكلاب المريضة، ويحدثنا الأستاذ الدكتور مصطفى السباعي فيما يتعلق بهذا النوع من الأوقاف فيقول: “توجد أماكن لمعالجة الحيوانات ومراعٍ في تقاليد الوقف القديم، فوقف المرعى الأخضر (وهي الساحة التي تحولت الآن إلى ساحة المدينة في دمشق) كانت فيما مضى ميداناً وُقِفَ لكي ترعى فيه الحيوانات الضعيفة التي حرمت الرعي والعناية بسبب فقدانها لطاقتها، وكانت هذه الحيوانات ترعى هناك إلى أن تموت، وتوجد من بين هذه الأوقاف في دمشق أماكن للقطط تأكل فيها وتنام وتمرح، حتى أن المئات من القطط كانت لا تعاني في إيجاد طعامها كل يوم حيث أصبحت من الطوّافات على ذلك المكان”
إن الإسلام الذي وهب المخلوقات هذا الكمّ من القيمة والتقدير، يهتم بالشجر والمحيط الأخضر، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم:
“إِنْ قَامَتِ السَّاعَةُ وَبِيَدِ أَحَدِكُمْ فَسِيلَةٌ، فَإِنْ اسْتَطَاعَ أَنْ لَا يَقُومَ حَتَّى يَغْرِسَهَا فَلْيَفْعَلْ” (أحمد، جـ 3، ص: 191، 183)
عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ رضي الله عنه أَنَّ رَجُلًا، مَرَّ بِهِ وَهُوَ يَغْرِسُ غَرْسًا بِدِمَشْقَ فَقَالَ لَهُ: “أَتَفْعَلُ هَذَا وَأَنْتَ صَاحِبُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟” فَقَالَ: “لَا تَعْجَلْ عَلَيَّ سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ:
“مَنْ غَرَسَ غَرْسًا لَمْ يَأْكُلْ مِنْهُ آدَمِيٌّ، وَلَا خَلْقٌ مِنْ خَلْقِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ إِلَّا كَانَ لَهُ صَدَقَةً” (أحمد، 6، 444. انظر: مسلم، المساقات، 7)
ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم في حديث آخر:
“من قطع سِدْرةً صوَّب الله رأسَه في النار” (أبو داود، الأدب، 158 – 159/ 5239)
ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم حظر قطع الأشجار وتخريب النبات والصيد في المدينة والطائف إلى جانب مكة بإعلانه إياها أماكن محرمة،[2] فيقول الرسول صلى الله عليه وسلم:
“لا يُخبَطُ ولا يُعضَدُ حِمى رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكن يُهَشُّ هَشًّا رَفِيقًا” (أبو داود، المناسك، 95-96 / 2039)
وقال فيما يتعلق بمكان مرعى قبيلة بني حارثة:
“مَنْ قَطَعَ شَجَرَةً فَلْيَغْرِسْ مَكَانَهَا وَدِيَّةً” (البلاذري، فتوح البلدان، ص: 19)
وينقل أبو دعشم الجهني عن جده قال: “نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أعرابي وهو يخبط على غنمه، فقال:
«ائتوني بالأعرابي ولا تفزعوه!» فلما جاء قال:
«يا أعربي هشَّ هشّاً ولا تخبط خبطاً» قال: فكأني أنظر إلى الخبط على صلعته” (ابن الأثير، أسد الغابة، دار الكتب العلمية 1415، 6، 351)
وكما رأينا فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنشأ مجتمعاً كريماً يحترم ويراعي جميع المخلوقات، من خلال توصيته في كل فرصة سانحة بحماية وتجميل المحيط.
وقد كانت خطبة أبي بكر رضي الله عنه الخليفة الأول بجيشه المستعد للخروج إلى القتال إحدى الشواهد على هذا:
“يا أيها الناس قفوا أوصيكم بعشر فاحفظوها عني:
لا تخونوا، ولا تَغُلُّوا، ولا تغدروا، ولا تمثلوا، ولا تقتلوا طفلاً صغيراً أو شيخاً كبيراً ولا امرأة، ولا تعقروا نخلاً ولا تحرقوه، ولا تقطعوا شجرة مثمرة، ولا تذبحوا شاة ولا بقرة ولا بعيراً إلا لمأكلة، وسوف تمرون بأقوام قد فرغوا أنفسهم في الصوامع فدعوهم وما فرغوا أنفسهم له“[3]
يقول الكومت دي بونّيفل وهو مذهول عندما لاحظ حساسية المسلمين في هذا الشأن: “لقد كان من الممكن في الدولة العثمانية رؤية الأتراك الذين وصلوا حدّاً كبيراً في المبالغة! إلى درجة أنهم وقفوا مالاً للعاملين في سقاية الأشجار غير المثمرة كي لا تجف من الحرارة حيث كانوا يسقونها كل يوم”